السلام عليكم ورحمة الله بركاتة
ماهي صيغة سبب النزول كما ذكرها السوطي في كتابة (الاتقان في علوم القران) .. ؟
تحقيق مركز الدراسات القرانية
للحافظ أبي الفضل جلال الدين عبدالرحمن ابن أبي بكر السيوطي (المتوفي سنة 911هـ)..
. ص189 .. الجزء الاول ..
النوع التاسع ... معرفة سبب النزول .
أفرده بالتصنيف جماعة أقدمهم علي بن المديني شيخ البخاري ، ومن أشهرها كتاب الواحدي على ما فيه من إعواز ، وقد اختصره الجعبري فحذف أسانيده ، ولم يزد عليه شيئا .
وألف فيه شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر كتابا مات عنه مسودة ، فلم نقف عليه كاملا .
وقد ألفت فيه كتابا حافلا موجزا محررا لم يؤلف مثله في هذا النوع ، سميته " لباب النقول في أسباب النزول " .
قال الجعبري : نزول القرآن على قسمين : قسم نزل ابتداء ، وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال ، وفي هذا النوع مسائل :
المسألة الأولى :
ص190 ..[ فوائد معرفة أسباب النزول ] زعم زاعم أنه لا طائل تحت هذا الفن ، لجريانه مجرى التاريخ . وأخطأ في ذلك ، بل له فوائد :
منها : معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم .
ومنها : تخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب .
ومنها : أن اللفظ قد يكون عاما ، ويقوم الدليل على تخصيصه ، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورته ، فإن دخول صورة السبب قطعي وإخراجها بالاجتهاد ممنوع كما حكى الإجماع عليه القاضي أبو بكر في التقريب ، والالتفات إلى من شذ ، فجوز ذلك .
[ ص: 190 ] ومنها : الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال : قال الواحدي : لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها .
وقال ابن دقيق العيد : بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن .
وقال ابن تيمية : معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية ، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب .
وقد أشكل على مروان بن الحكم معنى قوله - تعالى - : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا [ آل عمران : 188 ] وقال : لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي ، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ، لنعذبن أجمعون ، حتى بين له ابن عباس : أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء فكتموه إياه ، وأخبروه بغيره ، وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه ، واستحمدوا بذلك إليه . أخرجه الشيخان .
وحكي عن عثمان بن مظعون وعمرو بن معدي كرب أنهما كانا يقولان : الخمر مباحة ، ويحتجان بقوله تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية [ المائدة : 93 ] ولو علما سبب نزولها لم يقولا ذلك ، وهو أن ناسا قالوا لما حرمت الخمر : كيف بمن قتلوا في سبيل الله وماتوا وكانوا يشربون الخمر وهي رجس ؟ فنزلت . أخرجه أحمد والنسائي وغيرهما .
ومن ذلك قوله تعالى : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر [ الطلاق : 4 ] فقد أشكل معنى هذا الشرط على بعض الأئمة ، حتى قال الظاهرية : بأن الآيسة لا عدة عليها إذا لم ترتب . وقد بين ذلك سبب النزول ، وهو أنه لما نزلت الآية التي في سورة البقرة في عدد النساء ، قالوا : قد بقي عدد من عدد النساء لم يذكرن : الصغار والكبار ، فنزلت . أخرجه الحاكم ، عن أبي . فعلم بذلك أن الآية خطاب لمن لم يعلم ما [ ص: 122 ] حكمهن في العدة وارتاب : هل عليهن عدة أو لا ؟ وهل عدتهن كاللاتي في سورة البقرة أو لا ؟ فمعنى ( إن ارتبتم ) إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن ، فهذا حكمهن .
ومن ذلك قوله تعالى : فأينما تولوا فثم وجه الله [ البقرة : 115 ] . فإنا لو تركنا ومدلول اللفظ لاقتضى أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة سفرا ولا حضرا ، وهو خلاف الإجماع ، فلما عرف سبب نزولها على أنها في نافلة السفر ، أو فيمن صلى بالاجتهاد وبان له الخطأ ; على اختلاف الروايات في ذلك .
ومن ذلك قوله : إن الصفا والمروة من شعائر الله [ البقرة : 158 ] ، فإن ظاهر لفظها لا يقتضي أن السعي . فرض وقد ذهب بعضهم إلى عدم فرضيته تمسكا بذلك ، وقد ردت عائشة على عروة في فهمه ذلك بسبب نزولها ، وهو أن الصحابة تأثموا من السعي بينهما لأنه من عمل الجاهلية ، فنزلت .
ومنها : دفع توهم الحصر : قال الشافعي ما معناه في قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية [ الأنعام : 145 ] : أن الكفار لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله ، وكانوا على المضادة والمحادة ، فجاءت الآية مناقضة لغرضهم ، فكأنه قال : لا حلال إلا ما حرمتموه ولا حرام إلا ما أحللتموه ، نازلا منزلة من يقول : لا تأكل اليوم حلاوة ، فتقول : لا آكل اليوم إلا الحلاوة ، والغرض المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة ، فكأنه تعالى قال : لا حرام إلا ما أحللتموه ، من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، ولم يقصد حل ما وراءه ، إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل .
قال إمام الحرمين : وهذا في غاية الحسن ، ولولا سبق الشافعي إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك في حصر المحرمات فيما ذكرته الآية .
ومنها : معرفة اسم النازل فيه الآية وتعيين المبهم فيها ، ولقد قال مروان في عبد الرحمن بن أبي بكر : إنه الذي أنزل فيه والذي قال لوالديه أف لكما [ الأحقاف : 17 ] حتى ردت عليه عائشة وبينت له سبب نزولها .
[ ص: 196 ] المسألة الثانية :
اختلف أهل الأصول : هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب ؟ .
والأصح عندنا : الأول ، وقد نزلت آيات في أسباب ، واتفقوا على تعديتها إلى غير أسبابها كنزول آية الظهار في سلمة بن صخر ، وآية اللعان في شأن هلال بن أمية ، وحد القذف في رماة عائشة ، ثم تعدى إلى غيرهم .
ومن لم يعتبر عموم اللفظ قال : خرجت هذه الآيات ونحوها لدليل آخر ، كما قصرت آيات على أسبابها اتفاقا لدليل قام على ذلك .
قال الزمخشري في سورة الهمزة : يجوز أن يكون السبب خاصا والوعيد عاما ، ليتناول كل من باشر ذلك القبيح ، وليكون ذلك جاريا مجرى التعريض .
قلت : ومن الأدلة على اعتبار عموم اللفظ : احتجاج الصحابة وغيرهم في وقائع بعموم آيات نزلت على أسباب خاصة ، شائعا ذائعا بينهم .
قال ابن جرير : حدثني محمد بن أبي معشر ، أخبرنا أبي أبو معشر نجيح ، سمعت سعيد المقبري يذاكر محمد بن كعب القرظي ، فقال سعيد : إن في بعض كتب الله : إن لله عبادا ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمر من الصبر لبسوا لباس مسوك الضأن من اللين ، يجترون الدنيا بالدين . فقال محمد بن كعب : هذا في كتاب الله : ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا الآية [ البقرة : 204 ] ، فقال سعيد : قد عرفت فيمن أنزلت ؟ فقال محمد بن كعب : إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد .
فإن قلت : فهذا ابن عباس ، لم يعتبر عموم : لا تحسبن الذين يفرحون الآية [ آل عمران : 188 ] ، بل قصرها على ما أنزلت عليه من قصة أهل الكتاب .
[ ص: 197 ] قلت : أجيب عن ذلك بأنه لا يخفى عليه أن اللفظ أعم من السبب ، لكنه بين أن المراد باللفظ خاص ، ونظيره تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى : ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ الأنعام : 82 ] بالشرك من قوله إن الشرك لظلم عظيم [ لقمان : 13 ] مع فهم الصحابة العموم في كل ظلم .
وقد ورد عن ابن عباس ما يدل على اعتبار العموم ، فإنه قال به في آية السرقة مع أنها نزلت في امرأة سرقت . قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن أبي حماد ، حدثنا أبو ثميلة بن عبد المؤمن ، عن نجدة الحنفي قال : سألت ابن عباس ، عن قوله : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 38 ] أخاص أو عام ؟ قال : بل عام .
وقال ابن تيمية : قد يجيء كثيرا من هذا الباب قولهم : هذه الآية نزلت في كذا ، لا سيما إن كان المذكور شخصا كقولهم : إن آية الظهار نزلت في امرأة ثابت بن قيس ، وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله ، وإن قوله وأن احكم بينهم [ المائدة : 49 ] نزلت في بني قريظة والنضير ، ونظائر ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة ، أو في قوم من اليهود والنصارى ، أو في قوم من المؤمنين ، فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم ، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق ، والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه ؟ فلم يقل أحد : إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين وإنما غاية ما يقال : إنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعم ما يشبهه ، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ ، والآية التي لها سبب معين : إن كانت أمرا أو نهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته وإن كانت خبرا بمدح أو ذم ، فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته . انتهى .
تنبيه : قد علمت مما ذكر أن فرض المسألة في لفظ له عموم أما آية نزلت في معين ولا عموم للفظها فإنها تقصر عليه قطعا ، كقوله تعالى : وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى [ الليل : 17 - 18 ] فإنها نزلت في أبي بكر الصديق بالإجماع ، وقد استدل بها الإمام فخر الدين الرازي مع قوله إن أكرمكم عند الله أتقاكم [ الحجرات : 13 ] على أنه أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ووهم من ظن أن الآية عامة في كل من عمل عمله ، إجراء له على القاعدة ، وهذا غلط فإن هذه الآية ليس فيها صيغة عموم ، إذ الألف واللام إنما تفيد العموم إذا كانت موصولة أو معرفة في جمع زاد قوم : ( أو مفرد ) ، بشرط أن لا يكون هناك عهد . واللام في [ ص: 125 ] الأتقى ليست موصولة ، لأنها لا توصل بأفعل التفضيل إجماعا ، والأتقى ليس جمعا بل هو مفرد ، والعهد موجود ، خصوصا مع ما يفيده صيغة ( أفعل ) من التمييز وقطع المشاركة ، فبطل القول بالعموم وتعين القطع بالخصوص والقصر على من نزلت فيه - رضي الله عنه - .
ص 204 .. المسألة الثالثة..
تقدم أن صورة السبب قطعية الدخول في العام ، وقد تنزل الآيات على الأسباب الخاصة ، وتوضع مع ما يناسبها من الآي العامة ، رعاية لنظم القرآن وحسن السياق ، فيكون ذلك الخاص قريبا من صورة السبب في كونه قطعي الدخول في العام ، كما اختار السبكي أنه رتبة متوسطة دون السبب وفوق المجرد ، مثاله : قوله - تعالى - : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت [ النساء : 51 ] إلى آخره ، فإنها إشارة إلى كعب بن الأشرف ونحوه من علماء اليهود ، لما قدموا مكة وشاهدوا قتلى بدر ، حرضوا المشركين على الأخذ بثأرهم ومحاربة النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوهم : من أهدى سبيلا ؟ محمد وأصحابه أم نحن ؟ فقالوا : أنتم مع علمهم بما في كتابهم من نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - المنطبق عليه وأخذ المواثيق عليهم أن لا يكتموه ، فكان ذلك أمانة لازمة لهم ، ولم يؤدوها حيث قالوا للكفار : أنتم أهدى سبيلا حسدا للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
فقد تضمنت هذه الآية - مع هذا القول - التوعد عليه المفيد للأمر بمقابله المشتمل على أداء الأمانة التي هي بيان صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بإفادة أنه الموصوف في كتابهم ، وذلك مناسب لقوله إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها [ النساء : 58 ] . فهذا عام في كل أمانة ، وذلك خاص بأمانة ، هي صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بإفادة أنه الموصوف في كتابهم ، وذلك مناسب لقوله : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها [ النساء : 58 ] . فهذا عام في كل أمانة ، وذلك خاص بأمانة ، هي صفة النبي ، بالطريق السابق ، والعام تال للخاص في الرسم ، متراخ عنه في النزول ، والمناسبة تقتضي دخول ما دل عليه الخاص في العام ، ولذا قال ابن العربي في تفسيره : وجه النظم أنه أخبر ، عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقولهم إن المشركين أهدى سبيلا فكان ذلك خيانة منهم ، فانجر الكلام إلى ذكر جميع الأمانات . انتهى .
قال بعضهم : ولا يرد تأخر نزول آية الأمانات ، عن التي قبلها بنحو : ست سنين ; لأن الزمان إنما يشترط في سبب النزول لا في المناسبة ; لأن المقصود منها وضع آية في موضع يناسبها ; والآيات كانت تنزل على أسبابها ، ويأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوضعها في المواضع التي علم من الله أنها مواضعها .
ص206 .. المسألة الرابعة :
قال الواحدي : لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب ، وبحثوا عن علمها . وقد قال محمد ابن سيرين : سألت عبيدة عن آية من القرآن ، فقال : اتق الله ، وقل سدادا ، ذهب الذين يعلمون فيما أنزل الله القرآن .
وقال غيره : معرفة سبب النزول أمر يحصل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا ، وربما لم يجزم بعضهم ، فقال : أحسب هذه الآية نزلت في كذا كما أخرج الأئمة الستة ، عن عبد الله بن الزبير قال خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : اسق يا زبير ، ثم أرسل الماء إلى جارك ، فقال الأنصاري : يا رسول الله إن كان ابن عمتك ! فتلون وجهه . . . الحديث . قال الزبير : فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم [ النساء : 65 ] .
قال الحاكم في علوم الحديث : إذا أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا فإنه حديث مسند . ومشى على هذا ابن الصلاح وغيره ، ومثلوه بما أخرجه مسلم ، عن جابر ، قال : كانت اليهود تقول : من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول ، فأنزل الله نساؤكم حرث لكم [ البقرة : 223 ] .
وقال ابن تيمية : قولهم : نزلت هذه الآية في كذا ، يراد به تارة سبب النزول ويراد به أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب ، كما تقول : عني بهذه الآية كذا . وقد تنازع العلماء في قول الصحابي : نزلت هذه الآية في كذا ، هل يجري مجرى المسند ، كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله ، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند ؟ فالبخاري يدخله في المسند ، وغيره لا يدخله فيه وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره ، بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه ، فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند . انتهى .
وقال الزركشي في البرهان : قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال : نزلت هذه الآية في كذا فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها ، فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية ، لا من جنس النقل لما وقع .
قلت : والذي يتحرر في سبب النزول أنه : ما نزلت الآية أيام وقوعه ، ليخرج ما ذكره الواحدي في سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم الحبشة به ، فإن ذلك ليس من أسباب النزول في شيء ، بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية ، كذكر قصة قوم نوح وعاد وثمود وبناء البيت ، ونحو ذلك . وكذلك ذكره في قوله : واتخذ الله إبراهيم خليلا [ النساء : 125 ] سبب اتخاذه خليلا ليس ذلك من أسباب نزول القرآن ، كما لا يخفى .
تنبيه : ما تقدم أنه من قبيل المسند من الصحابي : إذا وقع من تابعي فهو مرفوع أيضا ، لكنه مرسل ، فقد يقبل إذا صح السند إليه ، وكان من أئمة التفسير الآخذين ، عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ، أو اعتضد بمرسل آخر ونحو ذلك .
ص 210 .. المسألة الخامسة...
كثيرا ما يذكر المفسرون لنزول الآية أسبابا متعددة ، وطريق الاعتماد في ذلك أن ينظر إلى العبارة الواقعة :
فإن عبر أحدهم بقوله : نزلت في كذا ، والآخر : نزلت في كذا ، وذكر أمرا آخر ، فقد [ ص: 128 ] تقدم أن هذا يراد به التفسير لا ذكر سبب النزول ، فلا منافاة بين قوليهما إذا كان اللفظ يتناولهما ، كما سيأتي تحقيقه في النوع الثامن والسبعين .
وإن عبر واحد بقوله : نزلت في كذا ، وصرح الآخر بذكر سبب خلافه فهو المعتمد وذاك استنباط . ومثاله ما أخرجه البخاري ، عن ابن عمر ، قال : أنزلت نساؤكم حرث لكم [ البقرة : 223 ] في إتيان النساء في أدبارهن . وتقدم عن جابر التصريح بذكر سبب خلافه ، فالمعتمد حديث جابر ; لأنه نقل ، وقول ابن عمر استنباط منه وقد وهمه فيه ابن عباس ، وذكر مثل حديث جابر ، كما أخرجه أبو داود والحاكم .
وإن ذكر واحد سببا وآخر سببا غيره ، فإن كان إسناد أحدهما صحيحا دون الآخر فالصحيح المعتمد ، مثاله : ما أخرجه الشيخان وغيرهما ، عن جندب : اشتكى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يقم ليلة أو ليلتين فأتته امرأة فقالت : يا محمد ، ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، فأنزل الله والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى [ الضحى : 1 - 3 ] .
وأخرج الطبراني وابن أبي شيبة ، عن حفص بن ميسرة ، عن أمه ، عن أمها - وكانت خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن جروا دخل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل تحت السرير فمات فمكث النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي ، فقال : يا خولة ما حدث في بيت رسول الله ؟ جبريل لا يأتيني فقلت في نفسي : لو هيأت البيت وكنسته ، فأهويت بالمكنسة تحت السرير ، فأخرجت الجرو فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ترعد لحيته ، وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة فأنزل الله : [ ص: 129 ] ( والضحى ) إلى قوله ( فترضى ) .
وقال ابن حجر في شرح البخاري : قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة ، لكن كونها سبب نزول الآية غريب ، وفي إسناده من لا يعرف ، فالمعتمد ما في الصحيح .
ومن أمثلته - أيضا : - ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة ، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود ، فاستقبله بضعة عشر شهرا - وكان يحب قبلة إبراهيم - فكان يدعو الله وينظر إلى السماء ، فأنزل الله : فولوا وجوهكم شطره [ البقرة : 150 ] فارتاب من ذلك اليهود ، وقالوا ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) ! فأنزل الله : قل لله المشرق والمغرب [ البقرة : 115 ] وقال : فأينما تولوا فثم وجه الله . [ البقرة : 115 ]
وأخرج الحاكم وغيره ، عن ابن عمر ، قال : نزلت فأينما تولوا فثم وجه الله أن تصلي حيثما توجهت بك راحلتك في التطوع .
وأخرج الترمذي - وضعفه - من حديث عامر بن ربيعة قال : كنا في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة ؟ فصلى كل رجل منا على حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت .
وأخرج الدارقطني نحوه من حديث جابر ، بسند ضعيف أيضا .
وأخرج ابن جرير : عن مجاهد ، قال : لما نزلت ادعوني أستجب لكم [ غافر : 60 ] قالوا : إلى أين ؟ فنزلت . مرسل .
وأخرج عن قتادة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أخا لكم قد مات فصلوا عليه فقالوا : إنه كان لا يصلي إلى القبلة ، فنزلت . معضل غريب جدا .
فهذه خمسة أسباب مختلفة ، وأضعفها الأخير لإعضاله ، ثم ما قبله لإرساله ، ثم ما قبله لضعف رواته ، والثاني صحيح ، لكنه قال : قد أنزلت في كذا ولم يصرح بالسبب ، والأول صحيح الإسناد ، وصرح فيه بذكر السبب ، فهو المعتمد .
ومن أمثلته – أيضا - : ما أخرجه ابن مردويه وابن أبي حاتم ، من طريق ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة - أو سعيد - عن ابن عباس قال : خرج أمية بن خلف وأبو جهل بن هشام ورجال من قريش ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا محمد ، تعال فتمسح بآلهتنا ، وندخل معك في دينك وكان يحب إسلام قومه . فرق لهم ، فأنزل الله وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك الآيات [ الإسراء : 73 - 77 ] .
وأخرج ابن مردويه من طريق العوفي ، عن ابن عباس : أن ثقيفا قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أجلنا سنة حتى يهدى لآلهتنا ، فإذا قبضنا الذي يهدى لها أحرزناه ، ثم أسلمنا . فهم أن يؤجلهم فنزلت .
هذا يقتضي نزولها بالمدينة . وإسناده ضعيف ، والأول يقتضي نزولها بمكة وإسناده حسن ، وله شاهد عند أبي الشيخ ، عن سعيد بن جبير ، يرتقي به إلى درجة الصحيح ، فهو المعتمد .
الحال الرابع : أن يستوي الإسنادان في الصحة ، فيرجح أحدهما بكون راويه حاضر القصة ، أو نحو ذلك من وجوه الترجيحات . مثاله : ما أخرجه البخاري ، عن ابن مسعود قال : [ ص: 131 ] كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ، وهو يتوكأ على عسيب ، فمر بنفر من اليهود ، فقال بعضهم : لو سألتموه ! فقالوا : حدثنا عن الروح ، فقام ساعة ورفع رأسه ، فعرفت أنه يوحى إليه ، حتى صعد الوحي ، ثم قال قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [ الإسراء : 85 ] .
وأخرج الترمذي وصححه ، عن ابن عباس . قال : قالت قريش لليهود : أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل ، فقالوا : اسألوه عن الروح ، فسألوه ، فأنزل الله ويسألونك عن الروح .
الآية .
فهذا يقتضي أنها نزلت بمكة . والأول خلافه ، وقد رجح بأن ما رواه البخاري أصح من غيره ، وبأن ابن مسعود كان حاضر القصة .
الحال الخامس : أن يمكن نزولها عقيب السببين أو الأسباب المذكورة ، بألا تكون معلومة التباعد ، كما في الآيات السابقة فيحمل على ذلك . ومثاله : ما أخرجه البخاري من طريق عكرمة ، عن ابن عباس : أن هلال ابن أمية قذف امرأته عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بشريك بن سمحاء ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : البينة أو حد في ظهرك فقال : يا رسول الله ، إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلا ; ينطلق يلتمس البينة ! فأنزل عليه والذين يرمون أزواجهم . . . . حتى بلغ : إن كان من الصادقين [ النور : 6 - 9 ] .
وأخرج الشيخان عن سهل بن سعد قال : جاء عويمر إلى عاصم بن عدي فقال : اسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا ، فقتله ، أيقتل به ، أم كيف يصنع ؟ فسأل عاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعاب السائل ، فأخبر عاصم عويمرا ، فقال : والله لآتين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلأسألنه ، فأتاه ، فقال : أنه قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن . . . الحديث .
جمع بينهما بأن أول من وقع له ذلك هلال ، وصادف مجيء عويمر أيضا ، فنزلت في شأنهما معا . وإلى هذا جنح النووي ، وسبقه الخطيب فقال : لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد .
وأخرج البزار : عن حذيفة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به ؟ قال : شرا قال : فأنت يا عمر ؟ قال : كنت أقول : لعن الله الأعجز ، فإنه لخبيث . فنزلت .
قال ابن حجر : لا مانع من تعدد الأسباب .
الحال السادس : أن لا يمكن ذلك : فيحمل على تعدد النزول وتكرره . مثاله : ما أخرجه الشيخان ، عن المسيب ، قال : لما حضر أبا طالب الوفاة ، دخل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية ، فقال : أي عم ، قل : لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله ، فقال أبو جهل وعبد الله : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب .
فلم يزالا يكلمانه حتى قال : هو على ملة عبد المطلب ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لأستغفرن لك ما لم أنه عنه ، فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية [ التوبة : 113 ] .
وأخرج الترمذي – وحسنه - عن علي قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان ، فقلت : تستغفر لأبويك وهما مشركان ! فقال : استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك ، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت .
وأخرج الحاكم وغيره ، عن ابن مسعود قال : خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما إلى المقابر ، فجلس إلى قبر منها ، فناجاه طويلا ، ثم بكى فقال : إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي ، فأنزل علي ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين فجمع بين هذه الأحاديث بتعدد النزول .
ومن أمثلته أيضا : ما أخرجه البيهقي ، والبزار ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف على حمزة حين استشهد ، وقد مثل به ، فقال : لأمثلن بسبعين منهم مكانك فنزل جبريل والنبي - صلى الله عليه وسلم - واقف بخواتيم سورة النحل : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به [ النحل : 126 ] إلى آخر السورة .
وأخرج الترمذي ، والحاكم ، عن أبي بن كعب قال : لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون ، ومن المهاجرين ستة ، منهم حمزة ، فمثلوا بهم فقالت الأنصار : لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم . فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله وإن عاقبتم الآية .
فظاهره تأخير نزولها إلى الفتح ، وفي الحديث الذي قبله نزولها بأحد .
قال ابن الحصار : ويجمع أنها نزلت أولا بمكة قبل الهجرة مع السورة لأنها مكية ، ثم ثانيا بأحد ، ثم ثالثا يوم الفتح تذكيرا من الله لعباده . وجعل ابن كثير من هذا القسم آية الروح .
تنبيه : قد يكون في إحدى القصتين : ( فتلا ) فيهم الراوي ، فيقول : ( فنزل ) .
مثاله : ما أخرجه الترمذي - وصححه - عن ابن عباس ، قال : مر يهودي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : كيف تقول يا أبا القاسم ، إذا وضع الله السماوات على ذه ، والأرضين على ذه ، والماء على ذه ، والجبال على ذه ، وسائر الخلق على ذه ؟ فأنزل الله وما قدروا الله حق قدره الآية [ الأنعام : 91 ] . والحديث في الصحيح بلفظ : فتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . . . . وهو الصواب ; فإن الآية مكية .
ومن أمثلته أيضا : ما أخرجه البخاري ، عن أنس قال : سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاه فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : أخبرني بهن جبريل آنفا قال : جبريل ؟ قال : " نعم " قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة . فقرأ هذه الآية من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك [ البقرة : 97 ] .
قال ابن حجر في شرح البخاري : ظاهر السياق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ الآية ردا على قول اليهود ، ولا يستلزم ذلك نزولها حينئذ . قال : وهذا هو المعتمد ، فقد صح في سبب نزول الآية قصة غير قصة ابن سلام .
تنبيه : عكس ما تقدم : أن يذكر سبب واحد في نزول الآيات المتفرقة ، ولا إشكال في [ ص: 135 ] ذلك فقد ينزل في الوقعة الواحدة آيات عديدة في سور شتى .
مثاله : ما أخرجه الترمذي والحاكم : عن أم سلمة ، أنها قالت : يا رسول الله ، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ؟ ! فأنزل الله : فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع [ آل عمران : 195 ] إلى آخر الآية .
وأخرج الحاكم عنها – أيضا - قالت : قلت : يا رسول الله تذكر الرجال ولا تذكر النساء ؟ ! فأنزلت إن المسلمين والمسلمات [ الأحزاب : 35 ] وأنزلت أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى .
وأخرج – أيضا - عنها أنها قالت : تغزو الرجال ولا تغزو النساء ، وإنما لنا نصف الميراث ؟ ! فأنزل الله : ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض وأنزل : إن المسلمين والمسلمات .
ومن أمثلته أيضا : ما أخرجه البخاري ، من حديث زيد بن ثابت : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أملى عليه : لا يستوي القاعدون من المؤمنين إلى والمجاهدون في سبيل الله [ النساء : 95 ] فجاء ابن أم مكتوم ، وقال : يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، وكان أعمى فأنزل الله : غير أولي الضرر .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن زيد بن ثابت - أيضا - قال : كنت أكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإني لواضع القلم على أذني ، إذا أمر بالقتال ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر ما ينزل عليه إذ جاء أعمى ، فقال : كيف لي يا رسول الله وأنا أعمى ؟ فأنزلت ليس على الضعفاء [ التوبة : 91 ] .
ومن أمثلته : ما أخرجه ابن جرير ، عن ابن عباس ، قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا في ظل حجرة ، فقال : إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان فطلع رجل أزرق ، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : علام تشتمني أنت وأصحابك فانطلق الرجل ، فجاء أصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا ، حتى تجاوز عنهم ، فأنزل الله يحلفون بالله ما قالوا [ التوبة : 74 ] الآية .
وأخرجه الحاكم وأحمد بهذا اللفظ ، وآخره : فأنزل الله يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم الآية [ المجادلة : 18 ] .
تنبيه : تأمل ما ذكرته لك في هذه المسألة ، واشدد به يديك ، فإني حررته واستخرجته بفكري من استقراء صنيع الأئمة ومتفرقات كلامهم ، ولم أسبق إليه .