لماذا ينتحر المثقفون..؟

لماذا ينتحر المثقفون؟

يبدو أن أزمة الكتاب والمثقفين لاتنحصر في التدليل على كتاباتهم في معارض الكتب وواجهة المكتبات وعلى بسطات الأرصفة، ولا في اقناع السادة النقاد بمواهبهم بعيداً عن الحسابات الشخصية والتنازلات، ولا في العثور على دار نشر تنشر كتبهم وتوزعها ولا تبتلع حقوقهم على قلتها، ولا في محاولات التغيير الفاشلة التي ينشدونها مما يكتبون، حين تكون لكتاباتهم أهداف تتخطى النسق العام والمفاهيم المتداولة والمتعارفة.. فالمثقفون مبتلون باحتمالية الانتحار، حيث تؤكد الأرقام والدراسات أن نسبة ملحوظة من المبدعين أدى بهم إبداعهم- إذا صح التعبير- إلى الانتحار، وهذه النسبة تقل عند الشخصيات السياسية، وأصحاب المهن الأخرى.

وقد اختلفت الآراء حول الانتحار، فهل يعكس فعل الانتحار شجاعة الشخص المنتحر أم جبنه وانعكاساً لفشله وعدم الحاجة لاستمرار حياته..؟ أيا يكن، فالانتحار يعتبر رغبة فردية تحدث تحت تأثير الشعور بالاغتراب واليأس والاحباط والقلق والاكتئاب، كمجموعة ضغوط نفسية. الانتحار بحسب علم النفس: «سلوك متعدد الدوافع، لا يولد في لحظة تنفيذه، وإنما يكون رابضاً كخيار في طبقات الوعي الغائرة إلى أن يطفو فوق السطح وينشط في ظروف معينة ليكون الخيار الوحيد». وقد أثبت علم النفس عدم وجود أي جينات وراثية مسؤولة عن الانتحار، كما تختلف مسببات الانتحار فهي في هونغ كونغ قد تكون بسبب الأوضاع الاقتصادية وهي في أميركا بسبب الخواء الروحي، وانعدام التواصل داخل مجتمع فرداني استهلاكي، وهي عندنا بسبب القهر، وضغوط الحياة.

وتختلف دوافع الانتحار لكنها في المجمل تتعلق بأحد الأسباب التالية: العدوان المتجّه إلى الداخل، الانتقام من الآخرين وجعلهم يشعرون بالذنب، محاولة لفرض الحب على الآخرين، محاولة للتكفير عن أخطاء الماضي، محاولة لتخليص النفس من مشاعر غير مقبولة، الرغبة في التقمص أو التناسخ أو التجسّد من جديد، الرغبة في الالتحاق بشخص ميت حبيب، الرغبة أو الحاجة للهرب من الضغوط أو الألم أو الانفعال الذي لا يطاق. ونضيف لها: اعتقاد الفرد بالانتقال الى حياة أخرى أفضل.
يعتبر المثقفون الشريحة الأكثر استعدادا للموت بقرار شخصي والأكثر تمثيلا لهؤلاء هم الأدباء والشعراء، إن اجتماع الذكاء مع الحساسية، بالإضافة للشرارة الإبداعية لا تخلو من بذور جنون كامنة تزيد من وهج الإبداع، كما تزيد في ظهور أعراض الأمراض النفسية، وأكثرها علاقة بالانتحار الاكتئاب، ما يجعل الأدباء والشعراء هم الأكثر استعداداً للموت بقرار شخصي، وقد تناولت الدراسات ظاهرة الكآبة والعزلة لدى الأدباء، والفنانين حين يشعرون بعجزهم عن أداء مهماتهم الاصلاحية والتغييرية، يعجزون عن الاستمرار في عطائهم الابداعي، وبالتالي يشعرون بعدم قدرتهم على مواصلة العيش، ما يدفعهم لوضع النهاية.

تيسير سبول

في الخامس عشر من نوفمبر عام 1973 وبعد حرب اكتوبر انتحر الأديب والشاعر الأردني تيسير سبول عن عمر يناهز الرابعة والثلاثين، وكان يشغل وقتها منصب رئيس البرامج الثقافية في الاذاعة الاردنية، إذ طلب فنجان قهوة من زوجته الأديبة والطبيبة المشهورة مي يتيم، ثم تمدد على فراشه وأطلق النار على رأسه.. بالنسبة لشخصية مركبة متعددة الحضور كشخصية تيسير سبول كما يصفها أحد أصدقائه، يصبح تفسير الانتحار صعباً، وربما تكون أسباب انتحاره فلسفية، فقد تصوف في أيامه الأخيرة وكان دائم السؤال عن الحياة بعد الموت، كان يرى ان هناك حياة اخرى لا يعرفها أحد.. اقتنع بان الحرية التي هي جزء من الحقيقة او هي الطريق اليها يمكن ادراكها بمواجهة الموت.

محمد رجائي عليش

في عام 1979 اطلق الكاتب والقاص المصري محمد رجائي عليش النار على رأسه، وجاء في تقارير رجال الشرطة ان الكاتب المذكور وجد في سيارته منتحرا على مقربة من شقتين كان يمتلكهما في الحي نفسه، ولم تعرف الاسباب الكامنة وراء الانتحار الا بعد وصول رسالة منه إلى النائب العام فيها اعتراف صريح بالانتحار.

لؤي كيالي

الفنان التشكيلي السوري الذي أحرق معرضاً كاملاً له بعد هزيمة حزيران عام 1967 قبل أن يحرق نفسه عام 1987، ويبدو للكثير ممن عرف لؤي كيالي أن الأيام والظروف والواقع ضيق الأفق، ومحاربة اوساط التشكيلين له وقتها، وعدم الاعتراف بموهبته، أحرقت أحلام الفنان داخله، وقيدته أمام لوحاته، ما دفعه لأن يشتغل جلاداً لحواسه، متشككاً هو نفسه من قيمة إبداعه.

عانى كيالي من مرض الصرع واتهمه الآخرون بالجنون، رسم عامة الناس، والوجوه التي صادفها في الشوارع، وهي «في لحظة الحلم، ماسح الاحذية، بائع الذرة، مرمم الشباك، بائع العلكة، بائع المسبحة، الغسالة، الأم، قاطفو القطن، بائع اليانصيب، المسيح،.. الخ) لؤي كيالي كان ضد فكرة الموت، لكنه كان محاصراً وتفاقمت محنة لؤي بعد أن تم الحجر عليه في مشفى للأمراض العقلية،، وجده بكري الناصر مدير الثقافة حينها في حلب، وجه كتاباً للمحافظ يطالبه بعدم معاملة لؤي كيالي الفنان التشكيلي والمدرس في جامعة دمشق كلية الفنون الجميلة بصفته مجنونا. فللفن كرامة، ولحواس الفنان كرامة من الواجب أن نصونها. من قبل، وقبل أن يحترق لؤي، ثمة حرائق كانت تشتعل في عقله المتيقظ.

أروى صالح

ابنة التجربة المصرية اليسارية و التي انتمت لجيل السبعينيات أو ما عرف بجيل الحركة الطلابية ذلك الجيل الذي أشعل المظاهرات في جامعات مصر تأثرا بحركة الطلاب الفرنسية في 1968. لم يقتصر نضال أروى على العمل العام فقد ترجمت كتاب ( نقد الحركة النسوانية ) لتوني كليف، كما فضحت في كتابها المبتسرون الأوساط الثقافية اليسارية، وقدمت فيه تحليلا ناضجا للظروف التاريخية الاجتماعية الاقتصادية السياسية تلك التي مسخت جيل السبعينيات ومن قبله جيل الستينيات، وإشكالية العلاقة بين المثقف والمرأة، كانت امرأة ملكت من الجرأة والحساسية ماجعلها غير قادرة على التعايش مع مجتمع أسهم في قتل أحلامها ومبادئها التي آمنت بها، في كتابها المبتسرون كتبت أروى : «ان المثقف يسلك في علاقته بالمرأة كبرجوازي كبير، أي كداعر، ويشعر ويفكر تجاهها كبرجوازي صغير، أي كمحافظ مفرط في المحافظة» يبدو أن أروى لم تجد منفذاً للنجاة سوى بإلقاء نفسها من شرفة إحدى قريباتها في الطابق العاشر، وقد حدث ذلك في يونيو عام 1997

مصطفى محمد

وهو شاعر كردي من مدينة الحسكة، كان في السابعة والعشرين من عمره انتحر في حلب عام 1979، وكانت له مجموعتان شعريتان تحت الطبع (أبواب تتهيأ للخروج) و(عودة الغيوم الصامتة ).خرج مصطفى من منزل ذويه قبل أسبوع من حادثة الانتحار ودون علم أحد، ليجدوه فيما بعد في مدينة حلب قرب كراج المدينة المركزي وقد تبين بان المرحوم كان قد قذف بنفسه من على سطح أحد الأبنية القريبة من كراج المدينة، وقد عثر على وصية في جيبه والتي تبرئ أي شخص من قتله وتؤكد على انه قام بهذا الفعل من تلقاء نفسه ونتيجة ضغوطات نفسية خاصة به في محيطه.

خليل حاوي

انتحر خليل حاوي عام 1982، مباشرة بعد دخول الجيش الاسرائيلي لجنوب لبنان وحصاره لبيروت، ما أصابه بحزن شديد وقنوط وهو المؤمن بقوميته والمدافع بشراسة عن وجوده، خذله الصمت العربي.. فوضع بندقية الصيد وضغط الزناد.
قال حاوي : «الجماهير التي يعلكها دولاب نار..من أنا حتى أرد النار عنها والدوار ».

صالح الشرنوبي

شاعر مصري رمى بنفسه تحت عجلات القطار عام 1951 بعد أن ترك في جيبه ورقة توصي أهله بطباعة ديوانه، وقد كان شاعراً رومانتيكياً صعلوكاً رغم تعليمه الديني، نشر في الأهرام وعمل فيها، والمصادر عنه متوافرة فقد كتبت عنه عدد من الدراسات، وطبعت له مجموعات شعرية كثيرة، وأعمال أخرى، وعمل في مهن متعددة، في الصحافة والفن، وكتب عنه عدد من أبرز الأدباء المصريين مثل كامل الشناوي وصديقه صالح جودت، وقد قدم لأحد دواوينه علي أحمد باكثير، وقال عنه العقاد إنه (لو عاش لبزَّ شوقيا)

عبد الباسط الصوفي

الأديب السوري المتشائم والذي مات مشنوقاً، بعد الكثير من الظروف القاسية وهو من حمص درس اللغة العربية وبسبب انتمائه القومي نفي إلى دير الزور، التي كانت منفى الذين يخرجون على طاعة النظام والسلطة، وهناك على ضفة الفرات كتب أجمل قصائده، التي تحكي عن مكابداته في الحب والسياسة، ولم تكن دير الزور سوى منفاه الأول بعدها ذهب الى غينيا حيث شهوة الحياة المعطلة لكن النغم الافريقي تحول إلى موسيقا جنائزية حين انتحر عبد الباسط الصوفي ولم يتجاوز الثلاثين من العمر، تاركاً وراءه ديواناً يتيماً واحداً نشره سهيل إدريس عن دار الآداب.

بحسب فرويد عالم النفس الشهير إن الانتحار ما هو إلا نوع من التوق والاشتياق للعودة إلى العدم الذي خبرناه قبل الولادة.

إن جميع حالات الانتحار وفقاً لعلوم النفس ودراستها تكون مسبوقة بانتحار جزئي وجودي هو الانعزال عن الآخرين والتخلي عن المسؤولية، والامتناع عن متابعة القيم الأصيلة في الحياة. وبهذا يكون الانتحار العقلي ليس أكثر من ذروة أو نهاية سلسلة من الاختيارات غير الأصيلة. ولهذا يركز العلاج الإنساني الوجودي للانتحار على جعل الفرد يدرك بشكل تام وجودة الحاضر، على أمل أن يجد فيه ما يكفي من المعنى لأن يبدأ حياته من جديد بإيقاع أصيل. وأن يحاول المعالج أيضاً أن يجلب انتباه المريض إلى إمكانياته وقدراته ليدرك قيمتها من أجل مواصلة الحياة.

إن النماذج التي اخترتها عشوائياً، والتي قد لاتغطي المشهد العام للانتحار في مجال المثقفين، هم أشخاص كسر الاحباط شوكة مقاومتهم، إنهم أشخاص انتحروا لأنهم ناقمون أو محبطون، سقطوا عن سرج الحياة لأن المبارزة لم تكن شريفة كفاية كي يستمروا بها حتى النهاية، فصنعوا نهاياتهم الخاصة واضعين نقطتهم الشخصية آخر السطر.

م/ن

مشا الله عليك مواضيعك من ذهب اخوي (أحَــــاسِــــيــــسً ومـــشــــاعَــــرَ )

واشكرك على الموضوع الشييق والممتع