المقال الثاني
«صرخة»... الجزء الثاني من الحقيقة
حسين أحمد بزبوز
21 / 11 / 2009م
راصد
http://www.rasid.com/artc.php?id=33614جرت العادة في سجلاتنا الإسلامية بين مختلف المذاهب الإسلامية، كتلك الحروب المديدة بين الشيعة والسنة الممتدة عبر التاريخ، أن توظف النصوص الدينية القرآنية والنبوية... الخ، لإحراز الانتصارات الكلامية تلو الانتصارات.
لذا عندما نحاول هنا عقلنة وأنسنة ذلك الحوار - عفواً الخوار -، كما حدث معنا في مقالة " أسماء شيعية لتلميع «كتاب»"، فسنصطدم حينئذٍ بأحجار صلدة من المنطق الأجوف - مع حفظ القدر اللازم طبعاً من الاحترام لأي محاولة «من قبل البعض» للاقتراب من العقل والمنطق -، يتكسر فوق صفحتها... العقل... وإنسانية الإنسان.
* وهنا حتماً ستفرض علينا بعض الأسئلة نفسها، بقوة:
- فهل دين الله، دين لا يعبأ بالعقل ولا بالمنطق ولا بإنسانية الإنسان؟!.
- وهل دين الله «أو الإسلام تحديداً»، دين مناهض لإنسانية الإنسان؟! أو للقيم الإنسانية الراقية والنبيلة؟!.
هذا للأسف، ما يؤكده... أو ما يريد أن يؤكده لنا البعض - من كبار القوم -، من خلال التركيز على الاهتمام بـ «الدليل النقلي» والتغاضي كثيراً أو قليلاً عن «الدليل العقلي» المناهض لذلك - المظهر لا الجوهر -. فالبعض يستمرون في تعبدهم الرجعي وفقههم الأعوج، ولا يتغير ذلك النهج لديهم في التعبد والفقه أبداً، وإن اصطدمت أدلتهم واجتهاداتهم البشرية بإنسانية الإنسان أو سعادته الواقعية وعقله وقيمه النبيلة... لنصبح بعدها وكأننا أمة ممن يعبدون الأبقار أو الأصنام... بلا فرق بيننا وبينهم في الفكر والمنطق... الضيق والأجوف.
وهكذا هم البعض أيضاً من الجمهور والعوام، بل ربما الكثيرون منهم، الذين يوافقون كذلك على تلك الرؤية الرجعية المتخلفة والمتحجرة للدين، بل ويبصمون عليها بعشرة أصابع. فالمهم عندهم أيضاً أن نتعبد الله وأن نرضيه بأدلة نصية قوية - قوة كلامية فحسب -، حتى لو أفسدنا كل كرتنا الأرضية الجميلة، أو فجرنا كل هذا الكون الجميل.
وطبعاً من جهة أخرى، نعلم جميعاً أن ما يقوي أدلتنا ورؤانا الدينية، هو قدراتنا العقلية البشرية المحدودة وغير المعصومة، لكن هذا لا يهم - عند البعض -، فرغم ذلك كله يمكننا أن نعتبر أدلتنا العقلية المفسرة للنصوص الدينية «إلهية» مقدسة، نبيح لأنفسنا بها أو عبرها أو من خلالها، أن نفسد كل جمال هذا الكون ونظامه البديع المحكم.
وفي جانب آخر من هذا الكون، سنجد بخلاف ذلك أن هناك... رؤية مغايرة لتلك الرؤية الأولى «الساذجة والبسيطة»، تنظر للدين باعتباره مصدراً للسعادة البشرية ومحفزاً للعقل والقيم الإنسانية النبيلة، وباعتباره منظومة متكاملة من القوانين والقيم الحافزة والمشجعة والموصلة للتطور والازدهار والحياة البشرية الأرضية الهانئة والرغيدة، وليس العكس... أو مجرد مجموعة طقوس تعبد جوفاء فحسب. وبالتالي ترفض هذه الفئة الأخيرة، أي تفسير مشوه ومغلوط للدين، يؤدي به للاصطدام بإنسانية الإنسان أو قدراته العقلية القادرة على فهم وتفسير ما هو إنساني عادل وما هو إرهابي وحشي وظالم أو فوضوي وغير بناء.
أصحاب هذه النظرة الأخيرة، يؤمنون بأن الله لا يمكن أبداً أن يكون غير حكيم أو غير عادل، ليرسل لهم بالتالي بعد ذلك أي نبي ليطلب منهم أن يتعبدوه بإراقة الدماء وقتل الأبرياء أو إفساد النظام العام للحياة أو للكون، المسبب لسعادة البشر... الخ. فيستحيل مثلاً، أن يرسل الله نبياً يقول للبشر: "عذبوا أطفالكم وقطعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف، تقرباً لله سبحانه"، أو "تقربوا لله بالسرقة ووأد البنات"، أو "أفسدوا البيئة، وقطعوا كل الأشجار".
وفي الحقيقة... قد يبدو الجميع في الساحة الإسلامية متفقاً في الظاهر على تلك الرؤية العادلة والرحيمة والحكيمة للتشريع الإلهي في هذا الكون، والتي يمكن أن يدركها البشر. لكن عند التدقيق في الواقع... فسنجد أن الواقع حقاً غير ذلك، إذ هناك فريقان مختلفان تماماً:
- فالفريق الأول: يمكنه أن يتنازل عن إنسانيته وعقله تعبداً لله - أو بذريعة التعبد الموهوم لله -.
- والفريق الثاني: يصر أن يحافظ على إنسانيته وعقلانيته، ثم يبحث بعدها من خلال فعل الاجتهاد وتكرار فعل الاجتهاد، عن تفسير إنساني عقلاني للدين - باعتبار الإنسانية والعقلانية أهم أو من أهم مقاصد وغايات الشريعة السمحة والدين الصحيح -، محافظاً - أي هذا الفريق - في نفس الوقت، على كل النصوص الدينية الصحيحة والثابتة باليقين لا بالظن.
«هنا» عند الفريق الأول، سنجد أن كل نص ديني يظهر من ظاهره إساءة لإنسانية الإنسان أو عقله... فيجب أن يطبق بحذافيره دون قيدٍ أو شرط، خضوعاً وتعبداً لله … بظواهر النصوص الدينية. أما عند الفريق الثاني، فسنجد أن هذا الفريق يعيد النظر في النصوص الدينية الإشكالية والتدبر فيها والتأمل في معانيها مراراً وتكراراً - بحثاً عن مقاصد الشريعة - فور ظهور أي تعارض بينها - ظواهر النصوص الدينية - وبين «العقل والمنطق والإنسانية»، التي قد تخطئها العقول البشرية أحياناً، فتتوهم بعجزها تبعاً لذلك تعارضاً بين: النص و«العقل والإنسانية».
* وهنا، بمناسبة حديثنا عن الجانب العقلي والجانب الإنساني في الدين، فهل يمكن أن نجد في نصوص الإسلام المقدسة ما يؤكد على أهمية الجانب الإنساني والجانب العقلي دينياً، باعتبار هذين الجانبين أهدافاً ومقاصداً عليا للدين؟.
طبعاً هذا الأمر سهل يسير، ونحن لسنا هنا بحاجة لخاتمٍ سحري أو لفتحٍ رباني عظيم، كي نكون به أول من يثبت ذلك الجانب المشرق في التشريعات الإلهية الحكيمة - عبر بعض الأدلة -، لكننا سنختار هنا بعض الأدلة الواضحة والمبينة استئناساً منا بذلك، وسنذكر هنا تلك الأدلة مرتبة كما يلي:
- «دليل الفطرة والإنسانية»، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ سورة الروم - آية 30.
- «دليل الخير والشر»، يقول الله سبحانه: ﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين امنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه أولئك هم المفلحون ﴾ سورة الأعراف - آية 157.
- «دليل الأخلاق الكريمة»، يقول الرسول الكريم : «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
* عودة إلى كتاب «صرخة من القطيف»:
البعض - من الإسلاميين -، يطالب - كما في بعض التعليقات «النتية» على مقالنا السابق -، بعدم الحديث عن "تورى بورى" أو "نهر البارد" أو"شهداء العراق الأبرار" أو "حقوق الإنسان" أو"حقوق المرأة". لأن كثيراً من الإسلاميين - من أمثال هؤلاء -، لا يجدون أنفسهم معنيين بفهم القيم الإنسانية النبيلة، ولا بالتعويل على عقل الإنسان وذكائه، الذي ورد في حقه في السنة المطهرة عن الله سبحانه وتعالى القول: «بك أثيب وبك أعاقب»، لأنهم يعولون فقط على ظواهر النصوص الدينية والتعبد بها مهما كلف الأمر ومهما كانت النتائج والغايات - وهذه هي القشرية الدينية الفاضحة، التي يدعونا إليها هؤلاء -.
لهذا السبب نجد المذاهب الإسلامية حتى اليوم غالباً - ومهما تشدقت بالعقل والمنطق والحكمة والإنسانية -، ما لا تتنافس في نقاشاتها الدينية، في أيها أكثر إنسانية ورحمة، ولا أيها أكثر عقلانية وحكمة، ولا أيها يقدم تفسيرات وحشية وغير حضارية تناهض حقوق الإنسان، ولا أيها يوافق ويؤيد حقوق الإنسان وقيمه النبيلة. بل تتنافس تلك المذاهب الإسلامية غالباً عبر رهبانها وربابنة السجال والجدال الديني المقيت فيها، في التمسك بقواعدها المذهبية الخاصة والتأكيد بقشرية على ظواهر بعض النصوص الدينية المنتقاة والمختارة بحيث تتوافق مع التوجهات المذهبية والدينية المعاصرة الحاضرة في أذهان القطعان الدينية، حتى لو أدى ذلك لإنتاج وإخراج تأويلات غير حكيمة وغير متزنة وغير منطقية وغير انسانية لكثير من الأدلة النصية الدينية.
فكل العقلانية والإنسانية، بعيدة هنا واقعاً كل البعد عن ساحة النقاشات والحوارات الدينية تلك، وميدان التسابق والصراع ذاك.
لأن المطلوب في النهاية وفي الأخير من جميع المتجادلين والمتحاورين دينياً من أبناء الإسلام، على صعيد تعدد مذاهبهم وخلافاتهم، إنما هو: «أدلة نصية تعبدية تراثية حبرية أو ورقية فقط - يزعم أصحابها أنها قوية -»، حتى لو دمرت كل شيء... كل الأرض... وكل «الكون».
لهذا هنا وتبعاً لذلك، فعندما تقدم طالبان الجاهلة والظالمة، أدلة نصية قوية مثلاً - على فرض أنها قادرة على ذلك الفعل العقلي والفكري الضخم، بالنسبة لمجهوداتها الفكرية والمنطقية المعروفة -،... فعليكم جميعاً أيها البشر أن تصغوا لها، وأن تطأطئوا الرؤوس أمامها، ثم فلتلحقوا بعدها بطالبان تلك، في كهوف "تورى بورى" المظلمة، ولتركزوا على نقاش الأدلة القطعية الدلالة والمصدر معها - هذا إن سمح لكم بالنقاش طبعاً -، بغض النظر في الأخير، عن الإنسانية والعقلانية والأهداف والغايات الراقية والنبيلة!!!... التي لا تسمن عند بعض الإسلاميين ولا تغني من جوع.
هذا كما يبدو واقع ما يطالبنا أن ننجر له أصحاب "صرخة من أرض القطيف"، وربما كل من لف لفهم من عباقرة التعقيبات الدينية الإنترنتية والسجالات المذهبية فيها... المنتشرون حول كرتنا الأرضية الرائعة والجميلة.
فهل حقاً من العقلانية أن ننجر لمثل هكذا حوارات أو جدالات ومطالبات عقيمة وغير حكيمة، والتي يطلبها منا البعض - من أمثال هؤلاء -؟؟؟!!!.
بالطبع... «لا». ولهذا السبب، ارتأيت هنا أن أقولها باختصار، وبكل ثقة وجرأة و«تكرار مؤكد للحقيقة»، رداً على كل ذلك الجدل والمجهود الطائفي العقيم: "صرخة... «فـ»... إلى أين؟!!!".
هذا... والسلام.